سورة الجاثية - تفسير تفسير البيضاوي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الجاثية)


        


{حم تَنزِيلُ الكتاب} إن جعلت {حم} مبتدأ خبره {تَنزِيلُ الكتاب} احتجت إلى إضمار مثل ذلك {تَنزِيلُ} {حم}، وإن جعلتها تعديداً للحروف كان {تَنزِيلُ} مبتدأ خبره: {مِنَ الله العزيز الحكيم} وقيل: {حم} مقسم به و{تَنزِيلُ الكتاب} صفته وجواب القسم: {إِنَّ فِى السموات والأرض لأيات لّلْمُؤْمِنِينَ} وهو يحتمل أن يكون على ظاهره وأن يكون المعنى إن في خلق السموات لقوله: {وَفِى خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ} وَلاَ يحسن عطف ما على الضمير المجرور بل عطفه على المضاف إليه بأحد الاحتمالين، فإن بثه وتنوعه واستجماعه لما به يتم معاشه إلى غير ذلك دلائل على وجود الصانع المختار. {ءَايَاتٍ لِقَوْمٍ يُوقنُونَ} محمول على محل إن واسمها، وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب بالنصب حملاً على الاسم.
{واختلاف اليل والنهار وَمَا أَنَزَلَ الله مِنَ السماء مَّن رِزْقٍ} من مطر وسماه رزقاً لأنه سببه. {فَأَحْيَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا} يبسها. {وَتَصْرِيفِ الرياح} باختلاف جهاتها وأحوالها، وقرأ حمزة والكسائي {وتصريف الريح}. {آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} فيه القراءتان ويلزمهما العطف على عاملين في والابتداء، أو أن إلا أن يضمر في أو ينصب {آيات} على الاختصاص أو يرفع بإضمار هي، ولعل اختلاف الفواصل الثلاث لاختلاف الآيات في الدقة والظهور.
{تِلْكَ آيات الله} أي تلك الآيات دلائله {نَتْلُوهَا عَلَيْكَ} حال عاملها معنى الإِشارة. {بالحق} ملتبسين به أو ملتبسة به. {فَبِأَىِّ حَدِيثٍ بَعْدَ الله وَآيَاتِهِ تُؤمِنُونَ} أي بعد {آيات اللهِ}، وتقديم اسم {الله} للمبالغة والتعظيم كما في قولك أعجبني زيد وكرمه أو بعد حديث {الله} وهو في القرآن كقوله تعالى: {الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث} و{ءاياته} دلائله المتلوة أو القرآن، والعطف لتغاير الوصفين. وقرأ الحجازيان وحفص وأبو عمرو وروح {يُؤْمِنُونَ} بالياء ليوافق ما قبله.
{وَيْلٌ لّكُلّ أَفَّاكٍ} كذاب. {أَثِيمٍ} كثير الآثام.
{يَسْمَعُ ءايات الله تتلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ} يقيم على كفره. {مُسْتَكْبِراً} عن الإِيمان بالآيات و{ثُمَّ} لاستبعاد الإِصرار بعد سماع الآيات كقوله:
يَرَى غَمَرات ثُمَّ يَزُورهَا ***
{كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا} أي كأنه فخففت وحذف ضمير الشأن والجملة في موضع الحال، أي يصر مثل غير السامع. {فَبَشّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} على إصراره والبشارة على الأصل أو التهكم.
{وَإِذَا عَلِمَ مِنْ ءاياتنا شَيْئاً} وإذا بَلغه شيء من {ءاياتنا} وعلم أنه منها. {اتخذها هُزُواً} لذلك من غير أن يرى فيها ما يناسب الهزء، والضمير ل {ءاياتنا} وفائدته الإِشعار بأنه إذا سمع كلاماً وعلم أنه من الآيات بادر إلى الاستهزاء بالآيات كلها ولم يقتصر على ما سمعه، أو لشيء لأنه بمعنى الآية. {أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ}.
{مّن وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ} من قدامهم لأنهم متوجهون إليها، أو من خلفهم لأنها بعد آجالهم. {وَلاَ يُغْنِى عَنْهُم} ولا يدفع عنهم. {مَّا كَسَبُواْ} من الأموال والأولاد. {شَيْئاً} من عذاب الله. {وَلاَ مَا اتخذوا مِن دُونِ الله أَوْلِيَاء} أي الأصنام. {وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ} لا يتحملونه.
{هذا هُدًى} الإِشارة إلى القرآن ويدل عليه قوله: {والذين كَفَرُواْ بئايات رَبّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مّن رّجْزٍ أَلِيمٌ} وقرأ ابن كثير ويعقوب وحفص برفع {أَلِيمٌ} وال {رِجْزَ} أشد العذاب.
{الله الذى سَخَّرَ لَكُمُ البحر} بأن جعله أملس السطح يطفو عليه ما يتخلخل كالأخشاب ولا يمنع الغوص فيه. {لِتَجْرِىَ الفلك فِيهِ بِأَمْرِهِ} بتسخيره وأنتم راكبوها. {وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} التجارة والغوص والصيد وغيرها. {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} هذه النعم.


{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِى السموات وَمَا فِي الأرض جَمِيعاً} بأن خلقها نافعة لكم. {مِنْهُ} حال من ما أي سخر هذه الأشياء كائنة منه، أو خبر لمحذوف أي هي جميعاً منه، أو ل {مَا فِي السموات} {وَسَخَّرَ لَكُمُ} تكرير للتأكيد أو ل {مَّا فِى الأرض}، وقرئ منه على المفعول له ومنه على أنه فاعل {سَخَّرَ} على الإِسناد المجازي أو خبر محذوف. {إِنَّ فِى ذلك لآيات لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} في صنائعه.
{قُل لّلَّذِينَ ءَامَنُواْ يَغْفِرُواْ} حذف المقول لدلالة الجواب عليه، والمعنى قل لهم اغفروا يغفروا أي يعفوا ويصفحوا. {لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ الله} لاَ يتوقعون وقائعه بأعدائه من قولهم أيام العرب لوقائعهم، أو لا يأملون الأوقات التي وقتها الله لنصر المؤمنين وثوابهم ووعدهم بها. والآية نزلت في عمر رضي الله عنه شتمه غفاري فهم أن يبطش به، وقيل إنها منسوخة بآية القتال. {لِيَجْزِىَ قَوْماً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} علة للأمر، والقوم هم المؤمنون أو الكافرون أو كلاهما فيكون التنكير للتعظيم أو التحقير أو الشيوع، والكسب المغفرة أو الإساءة أو ما يعمهما. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي {لنجزي} بالنون وقرئ: {لِيَجْزِىَ} قوم {وليجزي قوماً} أي ليجزي الخير أو الشر أو الجزاء، أعني ما يجزى به لا المصدر فإن الإسناد إليه سيما مع المفعول به ضعيف.
{مَّنْ عَمِلَ صالحا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا} أي لها ثواب العمل وعليها عقابه. {ثُمَّ إلى رَبّكُمْ تُرْجَعُونَ} فَيجازيكم على أعمالكم.
{وَلَقَدْ ءاتَيْنَا بَنِى إسراءيل الكتاب} التوراة. {والحكم} والحكمة النظرية والعملية أو فصل الخصومات. {والنبوة} إذ كثر فيهم الأنبياء ما لم يكثروا في غيرهم. {وَرَزَقْنَاهُمْ مّنَ الطيبات} مما أحل الله من اللذائذ. {وفضلناهم عَلَى العالمين} حيث آتيناهم ما لم نؤت غيرهم.
{وءاتيناهم بينات مّنَ الأمر} أدلة في أمر الدين ويندرج فيها المعجزات. وقيل آيات من أمر النبي عليه الصلاة والسلام مبينة لصدقه. {فَمَا اختلفوا} في ذلك الأمر. {إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ العلم} بحقيقة الحال. {بَغْياً بَيْنَهُمْ} عداوة وحسداً. {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِى بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} بالمؤاخذة والمجازاة.
{ثُمَّ جعلناك على شَرِيعَةٍ} طريقة {مِنَ الأمر} من أمر الدين. {فاتبعها} فاتبع شريعتك الثابتة بالحجج. {وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الذين لاَ يَعْلَمُونَ} آراء الجهال التابعة للشهوات، وهم رؤساء قريش قالوا له ارجع إلى دين آبائك.
{إِنَّهُمْ لَن يُغْنُواْ عَنكَ مِنَ الله شَيْئاً} مما أراد بك. {وَإِنَّ الظالمين بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} إذ الجنسية علة الانضمام فلا توالهم باتباع أهوائهم. {والله وَلِىُّ المتقين} فواله بالتقى واتباع الشريعة.
{هذا} أي القرآن أو اتباع الشريعة. {بَصَائِرَ لِلنَّاسِ} بينات تبصرهم وجه الفلاح. {وهدى} من الضلالة. {وَرَحْمَةٌ} وَنعمة من الله. {لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} يطلبون اليقين.
{أَمْ حَسِبَ الذين اجترحوا السيئات} أم منقطعة ومعنى الهمزة فيها إنكار الحسبان والاجتراح الاكتساب ومنه الجارحة. {أَن نَّجْعَلَهُمْ} أن نصيرهم. {كالذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} مثلهم وهو ثاني مفعولي نجعل وقوله: {سَوَاءً محياهم ومماتهم} بدل منه إن كان الضمير للموصول الأول لأن المماثلة فيه إذ المعنى انكار أن يكون حياتهم ومماتهم سيين في البهجة والكرامة كما هو للمؤمنين، ويدل عليه قراءة حمزة والكسائي وحفص {سَوَآء} بالنصب على البدل أو الحال من الضمير في الكاف، أو المفعولية والكاف حال وإن كان للثاني فحال منه أو استئناف يبين المقتضى للانكار، وإن كان لهما فبدل أو حال من الثاني، وضمير الأول والمعنى إنكار أن يستووا بعد الممات في الكرامة أو ترك المؤاخذة كما استووا في الرزق والصحة في الحياة، أو استئناف مقرر لتساوي محيا كل صنف ومماته في الهدى والضلال، وقرئ: {مَمَاتَهُمْ} بالنصب على أن {محياهم ومماتهم} ظرفان كمقدم الحاج. {سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} ساء حكمهم هذا أو بئس شيئاً حكموا به ذلك.


{وَخَلَقَ الله السموات والأرض بالحق} كأنه دليل على الحكم السابق من حيث أن خلق ذلك بالحق المقتضي للعدل يستدعي انتصار المظلوم من الظالم، والتفاوت بين المسيء والمحسن وإذا لم يكن في المحيا كان بعد الممات. {ولتجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} عَطف على بالحق لأنه في معنى العلة أو على علة محذوفة مثل ليدل بها على قدرته أو ليعدل {ولتجزي}. {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} بنقص ثواب وتضعيف عقاب، وتسمية ذلك ظلماً ولو فعله الله لم يكن منه ظلماً لأنه لو فعله غيره لكان ظلماً كالابتلاء والاختبار.
{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ} ترك متابعة الهدى إلى متابعة الهوى فكأنه يعبده، وقرئ: {آلهة هواه} لأنه كان أحدهم يستحسن حجراً فيعبده فإذا رأى أحسن منه رفضه إليه. {وَأَضَلَّهُ الله} وخذله. {على عِلْمٍ} عالِماً بضلاله وفساد جوهر روحه. {وَخَتَمَ على سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ} فلا يبالي بالمواعظ ولا يتفكر في الآيات. {وَجَعَلَ على بَصَرِهِ غشاوة} فلا ينظر بعين الاستبصار والاعتبار، وقرأ حمزة والكسائي {غشوة}. {فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ الله} من بعد إضلاله. {أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} وقرئ: {تتذكرون}.
{وَقَالُواْ مَا هِىَ} ما الحياة أو الحال. {إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا} التي نحن فيها. {نَمُوتُ وَنَحْيَا} أي نكون أمواتاً نطفاً وما قبلها ونحيا بعد ذلك، أو نموت بأنفسنا ونحيا ببقاء أولادنا، أو يموت بعضنا ويحيا بعضنا، أو يصيبنا الموت والحياة فيها وليس وراء ذلك حياة ويحتمل أنهم أرادوا به التناسخ فإنه عقيدة أكثر عبدة الأوثان. {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدهر} إلا مرور الزمان وهو في الأصل مدة بقاء العالم من دهره إذا غلبه. {وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ} يعني نسبة الحوادث إلى حركات الأفلاك وما يتعلق بها على الاستقلال، أو إنكار البعث أو كليهما. {إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} إذ لا دليل لهم عليه وإنما قالوه بناء على التقليد والإِنكار لما لم يحسوا به.
{وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا بَيّنَاتٍ} واضحات الدلالة على ما يخالف معتقدهم أو مبينات له. {مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ} ما كان لهم متشبث يعارضونها به. {إِلاَّ أَنَّ قَالُوا أئْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقينَ} وإنما سماه حجة على حسبانهم ومساقهم، أو على أسلوب قولهم.
تحية بَيْنَهمْ ضَرْبٌ وجِيعٌ ***
فإنه لا يلزم من عدم حصول الشيء حالاً امتناعه مطلقاً.
{قُلِ الله يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} على ما دلت عليه الحجج. {ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إلى يَوْمِ القيامة لاَ رَيْبَ فِيهِ} فإن من قدر على الابتداء قدر على الإعادة، والحكمة اقتضت الجمع للمجازاة على ما قرر مراراً، والوعد المصدق بالآيات دل على وقوعها، وإذا كان كذلك أمكن الإتيان بآبائهم لكن الحكمة اقتضت أن يعادوه يوم الجمع للجزاء.
{ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} لقلة تفكرهم وقصور نظرهم على ما يحسونه.
{وَللَّهِ مُلْكُ السموات والأرض} تعميم للقدرة بعد تخصيصها. {وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ المبطلون} أي ويخسر يوم تقوم و{يَوْمَئِذٍ} بدل منه.
{وترى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً} مجتمعة من الجثوة وهي الجماعة، أو باركة مستوفزة على الركب. وقرئ: {جاذية} أي جالسة على أطراف الأصابع لاستيفازهم. {كُلُّ أمَّةٍ تدعى إلى كتابها} صحيفة أعمالها. وقرأ يعقوب {كُلٌّ} على أنه بدل من الأول وتدعى صفة أو مفعول ثان. {اليوم تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} محمول على القول.
{هذا كتابنا} أضاف صحائف أعمالهم إلى نفسه لأنه أمر الكتبة أن يكتبوا فيها أعمالهم.. {يَنطِقُ عَلَيْكُم بالحق} يشهد عليكم بما عملتم بلا زيادة ولا نقصان. {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ} نستكتب الملائكة. {مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أعمالكم.

1 | 2